بين مكة وجرينتش يا قلبي إحزن
منذ تهالت الدولارات بلا حسيب و لارقيب على دول الخليج العربي الميمون منتصف السبعينات من القرن المنصرم من عائدات البترول خلال طفرات خيالية أيقظت سكان الصحراء من غفلتهم الطويلة والتي رانت قرنين من الزمان ونحن نرصد تلك الدول وهي في سباقها المحموم للإلتحاق بركب الحضارة وطبعاً لهم كل الحق في النهوض من وعثاء التخلف بعد ما قاسوا اهمالاً طويلاً منذ انهيار الخلافة العثمانية من ( رجل أوروبا المريض) بعد الحرب العالمية الأولى وبالطبع لابأس في النهضة وإقامة مشاريع التنمية فراحوا ينشؤون المدن والجامعات والمدارس والمستشفيات على أحدث الطرق العالمية في العمارة وملاعب كرة القدم ذات الطرز الإنشائية بالغة الفخامة و العصرية تكلفت المليارات ومراكز التجارة الضخمة (المولات والسوبرماركتات ) تشبهاً بالنموذج الأروبي أو النموذج الأمريكي كرد فعل منطقي للتبعية الإقتصادية لتلك الدول وبات الإنسان العربي الحديث متشوفاً ومحتذياً لنمط الإستهلاك الرأسمالي الغربي والأمريكي على وجه الخصوص من حيث تخطيط الطرق والكباري والأنفاق واقتناء أحدث السيارت حتى اندلعت الثورة المعلوماتية وما تضخه من كم هائل من المنجزات التي يلهث عالمنا العربي وراءها محاولاً اقتناء ما عّن له من ذلك الإنتاج السلعي الترفيهي لمختلف البضائع الرأسمالية والتي لا نهاية لإغراءتها الشيطانية في إساله لعاب إنساننا العربي الواعد والصاعد من حقبة التهميش والنسيان التي سادت في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية .
و في ظل تلك التنمية والنهضة العمرانية الحديثة لم ينس القائمون علي شؤون البلاد والعباد أهمية التمسك والحفاظ على الهوية العربية والإسلامية من الذوبان أوالتماهي مع ذلك الوافد المعلوماتي التكنولوجي الخطير والذي راح يغرق عالمنا العربي في بحار منتجاته الإستهلاكية المتوحشة .
وطبعاً يأتي الدين بمثابة طوق النجاة الوحيد للحفاظ على تلك الهوية الإسلامية ممثلاً في التركيز المهووس على طقوسه وشعائره سواء اليومية منها أوالموسمية من خلال اغراق القنوات الفضائية المفتوحة على مدار الأربعة وعشرين ساعة بلا كلل ولا ملل بمواعيد الصلاة وتقصي الهلال لبدء الصوم الرمضاني واللجوء إلى المراصد الفلكية لضبط أوائل الشهور القمرية بدقة لتحديد وقفة عرفات ورغم ذلك ظهرت عوامل الإختلاف بين الدول العربية في من يصوم أولاً ومن يفطر أولاً أيضاً .
ولكن ما يثيرالتساؤل هنا هو مدى تفتق العقلية الدينية العصرية والعاملة في كنف المشيخة الرسمية للدولة حينما تتعامل مع خط جرينتش أو التوقيت العالمي بالنسبة لجرينتش ذلك المنجز الحضاري الأروبي بمنطق الفهلوة والشطارة رغم أن هذا المنجز الحضاري كان ناتجاً لصراعات وإشكاليات للسفن المبحرة في المحيطات أو رصداً لمواقع المدن والعواصم والجزر في العالم الفسيح فأخترعوه اختراعاً حتى يمكنهم تحديد المدن والمواقع بسهولة واحكام بالنسبة لرحلات الطيران التي تجوب أنحاء المعمورة فجاءت تقسيمات خطوط الطول وخطوط العرض فيما عرف بعلم الجيوديسي أي جغرافية التضاريس ذات الأبعاد الرباعية ومن ثًم جاء اختيار ضاحية جرينتش و التي تقع تحت الإنحناء المميز لنهر التايمز في مدينة لندن دليلا ونبراساً عالمياً تلتزم به جميع دول العالم قاطبة للتحكم في شبكة التقاطعات الهائلة لرحلات السفن والطائرات حتى بعد ازدهار تكنولوحيا الأقمار الصناعية فتم الإستعانة والتعاون بينهما سواء في المجالات المدنية أوالعسكرية .
لكن تدهشنا مشيخة المشايخ العربية حين طالعتنا منذ سنوات باعتبار توقيت جهبذ جديد اسمه "بتوقيت السعودية" وتساءلنا هل نحن بحاجة إلى ذلك التوقيت الجديد أي هل هناك اعتبارات جدت تستدعي ذلك التخليق الغريب والشاذ فبالله ماذا يفيد هذا التوقيت في حركات الملاحة الجوية أو الملاحة البحرية مدنية كانت أو عسكرية فكل ما سعت إليه المشيخة في الفضائيات المملوكة لرؤوس الأموال العربية هو التوهم أن ذلك التوقيت ذو شأن أو حيثية دينية يلعب بعواطف المتدينين البسطاء والتي تهفهف أرواحهم نحو مكة المكرمة حيث الزخم الديني يبلغ قمته وذراه وبقليل من التحليل والرصد لشؤوننا العربية والإسلامية فلم نر له أي صدى على المستوى الشعبي والجماهيري إلا إذا كانت هناك مبارة كروية من مباريات كأس العالم أو تاريخ عرض للمواد الإعلامية كبرامج المسابقات والمسلسلات وأغاني الفيديو كليب وهلم جرا من المواد الفنية التافه منها والمفيد فلا تفرقة هذا اللجوء لتلك الألية من استعارة منجز أوروبي للتدليل على أهمية مفتعلة هو دليل على الشعور بالنقص والدونية ونستميح أخواننا عذراً كي لا تضحك منا الأمم فأي عائد جنينا نحن الأمة العربية والإسلامية من ذلك التوقيت الهش والذي لا رأس له ولا ذنب فقط هو استعارة خاطئة لمنجز حضاري ذو شأن خطير في العلوم الجيوسية المدنية والعسكرية على مستوى العالم أجمع ...........
بقلم : رأفت عبد الحميد فهمي