أمر فظيع أن ترى ما لايراه الآخرون

عدد المساهمات : 1569 تاريخ التسجيل : 27/11/2009

بقلم ســـلـــمى

مدينة العميان

هذا ملخص رواية حكاها لي والدي رحمه الله حينما كنت طفلة وقد قرأها هو في كتاب لا أعرفه ولا أعرف اسم المؤلف. لذا فليعذرني القارئ الكريم لأني أكتب قصة تلك المدينة المجهولة من ذاكرتي فقط.
......................

الرواية عن مدينة لا أحد يعرفها أبداً، لم تُرسم على الخريطة، ولم يزرها أحد من قبل. مدينة صغيرة في وادٍ منخفض .. محاطة بجبال شاهقة وخلف جبالها سلسلة أخرى من القمم والسفوح المغطاة بالثلوج.

في تلك المدينة المجهولة يعيش أناس أصابهم العمى منذ ألف عام أو أكثر بدأ حين انتشر وباء لم يجدوا له علاجاً إلى أن قضى على عيونهم جيلا بعد جيل. فصار الشعب كله أعمى منذ تلك الأزمنة السحيقة. ولأن العضو الذي لا يستخدم يضمر، ضمرتْ عيونُهم حتى اختفتْ ولم يبقَ إلا فجوات صغيرة تغطيها الجفون. عاش ذلك الشعب مئات السنين
دون أن يروا شيئاً لكن الحياة بسيطة وهادئة. يومهم مقسَّم إلى جزأين: جزء بارد يعملون فيه وجزء دافئ ينامون فيه وفوق رؤوسهم تحلِّق ملائكة صغيرة تزقزق بأصواتٍ عذبة. يسمعون رفيف أجنحتها باستمرار لأن حاسة السمع لديهم قد نمت نموا عجيبا للدرجة التي تجعلهم يسمعون ضربات قلب الإنسان القادم إليهم وهو لايزال على بعد أمتار.

كما ونمت باقي الحواس بشكل مذهل، وبها صاروا قادرين على تمييز بعضهم بعضا وتمييز الأشياء من حولهم. إنهم بحواسهم المتطورة تلك في غنىً عن البصر، فضلاً عن أنهم لا يعلمون عن وجود العيون أصلاً.

خارج تلك المدينة وعلى قمم تلي القمم التي تحيط بمدينتهم وقفت شابة قوية فوق سفوح الثلج مع فوج من هواة التزلج على الجليد. كانت في الثلاثين من عمرها تعمل مرشدة سياحية وتدل مجموعة من البشر على الطريق بين الدروب والقمم سيرا على الأقدام. ولأنها تقود أولئك السواح فقد تقدمتهم بعدة أمتار لتستكشف المكان بعد هبوب عواصف ثلجية في أيامٍ مضت قبل قدومهم.
...

في تلك اللحظة التي تقدمت فيها المرأة حدث انهيار جليدي جبار جعلها تختفي فجأة عن أعين مرافقيها الذين تراجعوا إلى الوراء قبل أن تبتلعهم الانهيارات.

الصدفة وحدها جعلتها تتحول إلى كرةٍ ضخمة من الثلج تتخذ مسارات متضاربة بين دروب الجبال الجليدية وتقذف بها من ممر إلى آخر ومن قمة إلى سفح إلى أن استقرتْ سالمة في مدينة العميان. دفعت بيديها وقدميها كومة الثلج التي تحيط بها. وربما ساعدها الجو الحار في تلك المدينة المنخفضة على سرعه التخلص من الجليد.

اكتشفت بعد ساعات من وصولها أن سكان تلك البلدة كلهم عميان وشعرت بنشوة غريبة لأنها المبصرة الوحيدة بينهم. أخذت تحدثهم عن الألوان.. عن الليل والنهار.. عن نجوم بعيدة تتلألأ في السماء..عن الشمس الذهبية.. عن القمر الفضي.. عن العالم.. عن القارات.. عن الحضارات.. عن البحار والأنهار.. عن الزهور وألوانها البديعة.. عن... لكنهم لم يفهموا كلمة واحدة مما تقوله لهم.

وكان السؤال الذي ألح عليهم: من أين جاءت هذه المرأة؟ قال علماؤهم: هي مخلوق ناقص التكوين نتج ربما عن عوامل طبيعية مثل الرطوبة والحرارة لكن عقلها ليس ناضجا بدليل الكلمات الغريبة التي تهذي بها طوال الوقت .

لن تكون ملكة عليهم إذاً، مع أنها المبصرة الوحيدة بل لن تتمتع بحقوق المواطن الطبيعي لأنها غريبة التفكير، غريبة السلوك، مشوشة مشوهة. يؤكد لهم ذلك كل تلك المتاعب التي وقعت فيها لعدم قدرتها على المشئ في الظلام عندما يبرد الجو ويبدأ الناس في الاستيقاظ والانطلاق إلى أعمالهم.

لقد اكتشفت هي ذاتها أن قدرتها على الإبصار تضر بها، وفقدت أعصابها فبدت أفكارها مشوشة فعلاً. قالت لذاتها: "أنا متورطة مع هؤلاء العميان في معركة وعلي أن أهزمهم. أنا أستطيع ذلك لأني أرى مالا يرون وهكذا أثبت لهم أن الإبصار مهم وأن المبصرين قادرون على فهم الحياة والتعامل معها أفضل من العميان"

لكنهم بحواسهم القوية تمكنوا من السيطرة عليها بعد أن تمكنت من تغيير أفكار عدد قليل منهم عن طريق إقناعهم بصدق ما تقول عن الحياة وما فيها، جعلتهم يصدقون أن للإنسان عيون يستطيع أن يرى بها. وأن في الدنيا ألوان كثيرة .. وشمس وقمر.. ليل ونهار.. ضوء وظل.. نور وظلمة.

لم يحاكموها برغم هرطقاتها لأنها مختلة عقليا. اكتفوا بتحذيرها والتأكيد لها بأن العواقب لن تكون كما تظن إذ أن تسامحهم مع المهرطقين قد لا يستمر خوفاً على الناس من الانجراف والانحراف. حينها أدركتْ المرأة أنها الخاسرة وقررت أن تنسحب. التزمت الصمت وعاشت بعض الوقت وحيدة متألمة. .. لكن الوحدة قاسية .. لذا .. ومع الأيام .. تعرفت على شاب منهم بدا متعاطفا معها. وتعلق قلبها به إذ أنه الوحيد الذي ينصت إليها ولا يهاجمها بسبب أفكارها الغريبة. ثم إن حياتها بينهم بائسة وليس أمامها إلا أن تندمج معهم. أن تعيش وتكوِّن أسرة وبيت. لذا قررت أن تتزوجه. وافق الرجل ووافقت أسرته بشرط أن يكشف عليها أطباؤهم ليتأكدوا من سلامة قواها العقلية.

قال الأطباء أن هناك كتلتين صغيرتين تتحركان تحت الجفنين. إنها أورام غريبة تضغط على المخ وتسبب لها هذا الجنون. ويجب أولاً أن توافق على إزالة تلك الأورام لتصبح طبيعيةً مثلهم وتتمكن من الزواج برجل من رجالهم.

وافقت المرأة على إجراء العملية إذ ما فائدة الإبصار إذا كان يسبب لها كل تلك المتاعب؟ ثم إن الأقدار حتمت عليها أن تعيش بينهم إلى الأبد فلا سبيل إلى الخروج من تلك المدينة المحاطة بعدد من السلاسل الجبلية الشاهقة. وقبل أن تسلم نفسها للأطباء جلست مع حبيبها وقالت له: أليس هناك بد من إجراء تلك العملية؟ كيف أراك إذا أزالوا عينيَّ؟ رد الرجل بحزن: ليتكِ تتوقفين عن قول هذه الكلمات الغريبة. كلماتكِ بلا معنى. قالت: لكني أحب أن أراك. قال العريس الأعمى: ما معنى (أراكَ)؟ توقفي عن الهذيان أرجوكِ لا تجعلي قلبي يتمزق حزناً عليكِ وأنتِ تهذين. تركته وأخذت تسير في شوارع المدينة إلى خارجها تحدق في القمم الرهيبة التي أمامها. قالت لنفسها: ليس من المعقول أن يسقط أحد من فوق هذه الجبال ويبقى سالماً إلا إذا كان حظه طيباً. وحظي الطيب الذي حماني من الموت سيجعلني أتمكن من الخروج من هنا. إذا تسلقت هذا الجبل ووصلت إلى القمة سيكون من السهل بعد ذلك الوصول إلى القمة التي تليها. ثم أتسلق بحذر إلى أن أصل إلى الممر الذي بين القمم ومنه أصل إلى عالم المبصرين.

وبدأت تلك المرأة في البحث عن أدوات لتسلق الجبال. جمعت ما وجدته نافعاً لها ووضعت قدمها على أول الطريق عندما نام جميع سكان المدينة وقت شروق الشمس. صعدت شيئا فشيئاً متجنبةً الصخور الكبيرة لكي لا تتدحرج فوقها. ومبتعدةً عن المنحدرات القوية لكي لا تسقط، إلى أن وصلت إلى اللقمة وقد اقترب وقت الغروب. شعرت بالتعب من السير المتواصل لكن هناك بقايا حماس في قلبها يدفعها إلى المزيد من الخطوات. تابعت سيرها بفرح برغم التعب عندما رأت القمم المكسوة بالثلوج من بعيد. ولم ينتصف الليل إلا وقد وصلت إلى جبال الجليد. ولأن الإنهاك والتعب الشديد قد استوليا على جسدها تمددت تحت النجوم الباردة فوق الثلج وهي تبتسم في ارتياح. ولازالت نائمةً وعلى وجهها ذات الابتسامة في ذات المكان إلى الآن بعد أن غمرتها العواصف بالكثير من الثلوج.

قبل أن تنام تلك المرأة قالت لنفسها: "أمر فظيع أن ترى ما لايراه الآخرون.

أما الأفظع فهو أن يرغموك على ألا ترى شيئاً"

عدد المساهمات : 523 تاريخ التسجيل : 29/12/2009

من اروع ما قراءت

شكر لك

مارينا

عدد المساهمات : 1569 تاريخ التسجيل : 27/11/2009

مارينا كتب:: من اروع ما قراءت

شكر لك

مارينا

لحضورك

admin عدد المساهمات : 370 تاريخ التسجيل : 16/11/2009

أستمتعت بالوقت الذي قضيته هنا

شكرا لك على النقل الرائع

كن بخير

عدد المساهمات : 1569 تاريخ التسجيل : 27/11/2009

رفيع الشآن كتب:: أستمتعت بالوقت الذي قضيته هنا

شكرا لك على النقل الرائع

كن بخير

لحضورك