بقلم محمود كرم
May 30, 2010
يبدو لي واضحاً من دون أيِّ ضبابية أو تعقيد أو تردد أو تلكؤ، أن الأصل في فلسفة الحداثة الفكرية وفي الوعي الفلسفي الإنساني هو تبنيهما الكامل لما هو حقٌ للإنسان أولاً، على العكس تماماً مما هو سائد في الثقافات والمعتقدات الدينية والأيديولوجية الأخرى، حيث إنها تفرض على الإنسان قبل كل شيء ما هو الواجب منه فقط تجاهها، حتى من دون أن تمنحه في مقابل ذلك حقاً واحداً يحفظ له استقلاليته وحريته وتفكيره ورأيه وقراره..
فبعد أن أدركَ الإنسان وجوده عبر التأسيس الفكري الواعي لفرديته الذاتية في صناعة مصيره وحياته وقراره وحريته، كان الوعي الفلسفي الإنساني يتجه تصاعدياً وتركيزياً وتفاضلياً نحو حماية الجانب الأصيل فيه، وهوَ أن الإنسان يجب أن يبقى دائماً حراً، كإحدى أهم المرتكزات في الدفاع عن حقه الأصيل في الحياة، مالكاً لوعيه وإرادته وتفكيره، وصانعاً لقراره واختياره وحريته، فمنذ زمن فلاسفة ألإغريق، ومروراً بفلاسفة عصر النهضة والتنوير والحداثة، كان الوعي الفلسفي الإنساني في كل تحولاته وتعاقباته وتموجاته ومخاضاته واستنطاقاته، يتقصّد دائماً استثارة النزعة الذاتية في الإنسان طريقاً لتجذير مفاهيم الحرية على مستوى الذات أولاً، يستدعيها من حقيقة وجوده وإرادته الذاتية والعقلية، كفضاء فكري ذاتي ينطلق منه نحو استيعاب حركته وتجربته وتفاعلاته في تلاحمهِ الثقافي والمعرفي مع حركة الحياة في تغيراتها وتقلباتها وتحولاتها، وفي جوانبها وأبعادها وآفاقها وامتداداتها وتشعباتها..
ومن المعروف أن الإنسان عادةً ما يأتي إلى الحياة مثقلاً بثقافات ومعتقدات و إيديولوجيات ومسلّمات محيطه وبيئته ومجتمعه، حيث يجدها أمامه حاضرة بكل تناسلاتها وتعاقباتها وأثقالها و أكراهاتها و فروضاتها وواجباتها وتوجيهاتها، وعليه أن يتوارث كل ذلك من دون تفكير أو نقد أو مساءلة أو اعتراض أو تحديق أو تشكيك أو الخروج منها وعليها، فالإنسان وسط كل ذلك يغدو ضحية الموروثات والثقافات والحقائق المعلبة والإجابات الجاهزة والمعتقدات المتوارثة، وفوق ذلك عليه أيضاً أن يكون محكوماً تجاهها بواجب الطاعة والتبعية والتقليد والتكليف، سالبةً منه بحكم التوارث اليقيني التلقائي والإلزامي والسلطوي حقه الطبيعي الإنساني الحر في الحياة، والتخلص من كل ذلك يحتاج أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة، يتلخّص في أن يكون حراً أولاً وقبل كل شيء في قبول أو رفض ما يجده أمامه من ثقافات ومعتقدات وموروثات، وليسَ أن ينحني أمامها خاضعاً مستسلماً، فاقداً لاختياره وحريته وقراره، تطبيقاً لثقافة الواجب عليه تجاهها، كما تدعوا إليه وتعمل به المعتقدات الدينية والتراثية والتاريخية والثقافية والأيديولوجية..
فالأمر الجوهري الذي تبناه الفكر الإنساني والوعي الفلسفي فيه، أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة، يجعله يقف على حقيقة حريته التفكيرية والإرادية والعقلية، ويمنحه ذلك استقلاليته الذاتية الكاملة، أما ما يؤمن به من واجب تجاه حقه ذاك، فليسَ سوى الأسلوب الواعي والفكري والأخلاقي والمسلكي الذي يرتب حقه ويحفظه ويحميه له من السلب أو القمع أو التعدي أو التشويه، ولا يستطيع الإنسان أن يكون خلاقاً في الحياة، صانعاً للإبداع والحرية والحب والجمال والفن والفكر، مبتكراً لقيّمهِ وأخلاقهِ وأفكاره وحياته، إلا حينما يؤمن أولاً بأن له حقاً إنسانياً أصيلاً في الحياة، حق الذاتية والحرية والاختيار والقرار والتفكير والتساؤل والإبداع..
إن تمسّك الإنسان العميق والثابت والواعي والجمالي بحقوقه الإنسانية الطبيعية في الحياة، هو الأساس الذي تقوم عليه إبداعاته وتخلقاته وإنجازاته ومنجزاته، وهو المسعى الإبداعي الحر والمتجدد الذي يكتشف فيه أبعاد العالم من حوله، ويكتشف فيه وجوده وذاتيته ووعيه وتغيراته وتجدداته وتفاعلاته، متحرراً من هيمنة الوصايات المرجعية اليقينية والعاطفيات التراثية والحقائق المعلبة و الفنتازيا والخيالات الدينية والأيديولوجية، ولذلك كان تركيز الفيلسوف الألماني فويرباخ على أن يتخلّص الإنسان من الخيالات الدينية لكي يكتشف أبعاد العالم الحقيقي، وما تأكيد الوعي الفلسفي الإنساني على حق الإنسان أولاً، إلا لكي يضعه في سياق المسار الإبداعي الإنساني الحر والخلاق، ويحرره من إكراهات وأثقال و فروضات الثقافات الاستلابية والتوجيهية والتسلطية والتلقينية التي تطلبُ منه قبل كل شيء وبعد كل واجب ما هو الواجب تباعاً عليه أيضاً وأيضاً تجاهها، محكوماً بطاعتها وملتزماً بالتقوقع وا لتقزم في تعاليمها وحاملاً لمنقولاتها ونصوصها ومدافعاً عن حمولاتها الأيديولوجية والمرجعية التراثية التكليفية الجامدة والمنغلقة والتراجعية والمنكفئة، إنها في النهاية تجرّد الإنسان من قيمته الذاتية الإبداعية الحرة، تقتلعُ منه روح الإيجابية والجرأة والاقتحام والتحديق نحو الحياة (مَن لا يملك علماً ولا فناً، ليسَ أمامه إلا أن يكون من المتدينين) كما يقول الشاعر الألماني غوته..
ثقافة الواجب والطاعة والتكليف والتقليد، هي ثقافات قمعية استبدادية في تكويناتها ومنطوقاتها الأدبية والنصية والتفسيرية، تسلبُ حق الإنسان الطبيعي الأصيل في ثقافة النقد والسؤال والتفكير والتفكيك والرفض، إنها ثقافات تضع الإنسان تحت قانون الخدَر الثقافي الاستبدادي، تزرعُ فيه ثقافة الخوف من المجهول، سبيلاً لإيمانهِ المطلق بمنطق الغيبيات والماروائيات، وفي اتجاه موازٍ تدغدغُ فيه حاجته الماسة إلى طاعتها وتطبيق فروضاتها وتعاليمها، لكي ينال شرف خدمتها وإرضائها، ولكي تجنبه المخاطر والشرور والويلات، وتجلبَ له الخير والنفع والفائدة والراحة والسعادة الأبدية، فهذه الثقافات تعمل على ادراج الإنسان في منظومة ثقافية استبدادية تخديرية وخاملة، يجب أن يعمل فيها بطريقة ميكانيكية تلقائية وانفعالية لتلقّي واجباته منها تجاهها، وتُفهمهُ تالياً أن طبيعة الإنسان الحتمية أن يندرج مذعناً في هذين المسارين..
ولذلك كان الوعي الفلسفي الإنساني يعملُ في كل مراحله التنويرية على استثارة ثقافة السؤال في الإنسان، فتحاً فكرياً ملهماً طافحاً بالدهشة والتأمل والإبداع، ومفعماً بالاقتحام والجرأة والمجازفة، يعرفُ من خلالهِ الفرد قيمة ذاته الحرة والمستقلة في استيلاد منابع القوة والإرادة والحرية في أعماقه، متوقداً بالوهج المعرفي سبيلاً واعياً للتأكيد على حقه الإنساني في امتلاك حريته وقراره وحياته، فحينما يملك الإنسان حقه في كل ذلك، رافضاً ثقافة الواجب القمعية، يملك تفكيره الحر في التحاور العقلاني والواقعي مع الحياة في حركتها واحتمالاتها وتبدلاتها وتغيراتها وتحولاتها واصطداماتها وفي سكونها ومساحاتها وألوانها، وتغدو الحياة أمامه مساحةً تتمدد في أكثر من أفق وتتشعبُ في أكثر من مدى، تاركةً له جانب البحث والفكر والتفكير والقلق والمواجهة والتقليب فيها، متجلياً هذا الإنسان بحقهِ في كينونته الذاتية المعرفية والإرادية، والتي تعني في تمثلاتها التعبيرية والتجسيدية حضوره النقدي والتفكيري الشهي والملهم والجريء على مسرح الحياة، فمن غير هذا الحضور الفعلي المسكون بهواجس التفكير والنقد والشك والتغيير والمحاولة والتجريب، يستسلم الإنسان طوعاً وتلقائياً لثقافة الواجب والطاعة والقبول والتكليف..
ونستطيع أن نفهم من ذلك أن فكر الإنسان إنما يبرقُ خلاقاً ومتجدداً وخلاباً من إرادته الحرة، ومَن يملك إرادته التفكيرية، يملك تبعاً لذلك فكره الفاره والمتنوع والخلاق والمفتوح، كما كان يدعو إلى ذلك فيلسوف العقل ديكارت، فالإنسان حينما يُبدعُ تجربته وإرادته وحريته تأسيساً على حقه في التفكير والخلق، يبدع فكره وأسلوبه وطريقته، وقدرة الإنسان إنما تتجلى في قدرتهِ على خلق تفكيره وأفكاره خروجاً منفتحاً حراً على أثقاله وثقافاته الدينية والبيئية الموروثة، والإنسان المسكون بطاقة الابتكار والإبداع يرتفع ذاتياً إلى مستويات حريته في التعايش الجمالي والحميمي أيضاً مع أفكاره وطريقته وإبداعاته، وفي المقابل أليسَ تهديم كل ذلك في الإنسان، كما تسعى إليه ثقافة الواجب الاستلابية وثقافة التكليف والطاعة، إنما هو تهديم استقصادي لذات الإنسان الحرة والمفكرة والمستقلة والمتساءلة والمبدعة، إنه تدمير شنيع للإنسان الذي يسعى دائماً أن يكون نفسه، أن يكون حريته وتجربته وإبداعه وفكره وتفكيره وابتكاره، فثقافة الواجب الاستبدادية التسلطية اليقينية والتقديسية، هي ثقافة تهديم واستلاب وفرض وتخريب وخوف وخنوع وتسليم وانهزام وتراجع وعجز وتردد وانغلاق وتقوقع وانكفاء وتأثيم، بينما ثقافة الذات الحرة المتمسكة بحقها الإنساني الأصيل في الحياة، هي ثقافة الإرادة والتصميم والاقتحام والجرأة والتمرد والشك والتفكير والبحث والنقد والسؤال والتحديق والمجازفة والتحدي والرفض والاحتجاج والرغبة والشغف والاشتهاء والاطمئنان والحب والجمال والحرية والتمنّي والإبداع والخلق..