الجهل خير من العلم
بقلم هشام محمد
أيهما أخطر على قيم الحداثة والعصرنة وحقوق الإنسان وقضايا الأقليات والمرأة: المتعلم ام الأمي؟ ليس في السؤال أي رائحة استخفاف بعقل القاريء الكريم مطلقاً. اعرف ان الكثير، إن لم يكن الجميع، سيقول: لا يستحق سؤالك عناء التفكير...إنه الأمي حتماً. أما أنا فلي رأي مغاير، قد تتفقون معي فيه أو تختلفون، والاختلاف لا يفسد للود قضية كما يقال. أبني رأيي هذا، لا على أساس دراسة علمية موثقة أو ورقة بحث محكمة، وإنما على أساس مشاهدات شخصية عابرة وشبه يومية. من المؤكد أن اجابتكم ستكون في محلها فيما لو كنا نتحدث عن أي بقعة أخرى خارج اسوار العالم العربي. أما هنا فالأمور لدينا تسير بالمقلوب، وغالباً في الاتجاه المعاكس.
عندما تسترجع ذاكرتي ما تبقى من تلك الوجوه القديمة وتلك العلاقات الانسانية الدافئة ما قبل سقوط البلاد في فخ الصحوة وقبضة الصحويين، اشعر بشيء من الحسرة والألم. كان الناس حينها أقل تعليماً مما هم عليه الآن، وأقل تعمقاً في الدين مما هم عليه الآن، ولكنهم كانوا في المقابل اكثر لطفاً ووداً وتسامحاً مما هم عليه الآن. لم تكن دائرة الكفر وقتها بما هي عليه من كبر واتساع الآن. ولم تكن جدران الحرام وقتها بما هي عليه من سماكة وعلو الآن. ولم يكن المجتمع مصاباً بسعار الفتاوى الدينية كما هو عليه الآن. إلى أن وقعت ثلاثة انفجارت مدوية في مطلع الثمانينيات: أولها، الثورة الخمينية وما صاحبها من مخاوف تصدير المد الثوري الشيعي، وثانيها، الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال العسكري السوفييتي، وثالثها، احتلال الحرم المكي من قبل جماعة جهيمان السلفية التكفيرية.
كان يكفي واحد من تلك الأحداث الجسام ليغرق البلاد في بحور الأصولية وأمواج التطرف. في اعقاب تلك الأحداث المزلزلة، تضاعفت اعداد المتدينين من ذكور وإناث في متوالية هندسية. ومنذ ذاك الحين، استوطنت اللحى الوجوه، وقصرت الثياب إلى ما فوق الكعبين، واختفت (بدعة) العقال، ولعلعت الأناشيد الدينية عالياً، وصار شيوخ الكاسيت نجوماً وأعلاماً. في عصر الصحوة (المباركة) بددت طاقات فائضة وأموال طائلة وصفحات كثيرة في سبيل الدفاع عن سخافات شكلية وقشور دينية من حجاب ولحية وسواك وعذاب قبر وحور عين. أسلمت الصحوة كل شيء، ودهنتها بألوانها الكئيبة، بداية من الأدب والفن والاقتصاد والتعليم والتلفزيون، مروراً بالإذاعة المدرسية وطريقة الكلام والسير وكيفية النوم والجلوس والضحك، ونهاية بسراويل السباحين ولاعب الكرة واحتفاله بالأهداف وأجهزة الرد الآلي والعروسة باربي وزجاجة الكوكا كولا.
في زمن وجيز، سيطرت الصحوة على مفاصل المجتمع ومؤسساته، والقت بظلال فكرها الشاحب على كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها، خاصة التعليمية منها. لقد تحولت المدارس والجامعات بفضل جهودات الصحويين الحثيثة إلى مراكز لتأسيس بنى التطرف والإرهاب. قد يقول قائل: لو صح كلامك هذا، فلماذا لا يعتمر كافة خريجي المدارس والكليات أحزمة ناسفة؟ وجوابي على هذا، أن مناهج التعليم أسهمت وبطريقة غير مباشرة في خلق بيئة متعاطفة مع حجج الإرهاب وجرائم التكفيريين. مناهج التعليم لدينا انتزعت من رأس الطالب آليات التحليل والنقد والمساءلة، واجهضت فيه مقومات الابداع الفكري، وحولت عقله إلى قطعة اسفنج تمتص اليقينيات والمسلمات بلا تفكير ونقاش.
لم تعلمنا المدرسة أو الجامعة أن المسلم على حق والمسيحي على حق واليهودي على حق والبوذي على حق والهندوسي على حق. علمتنا أننا وحدنا من دون البشر من يملك ناصية الحق وتذكرة دخول الجنة، وما عدانا كفار ملاعين وأخوة شياطين وأعداء ألداء، دمهم حلال ومالهم حلال ونساءهم حلال. علمتنا المدرسة والجامعة أن ماضينا مكتوب بخيوط من ذهب، ورجاله ليسو بملائكة ولا بشر، بل بين هذا وذاك. علمتنا المدرسة والجامعة أن الخير كله في اتباع السلف والشر كله في اتباع الخلف. علمتنا المدرسة والجامعة أن الواقع هو من يتكيف ليتناغم مع أقوال وأفعال النبي العظيم وصحبه الكرام والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. علمتنا المدرسة والجامعة أن المهدي سيأتي والدجال سيخرج وعيسى سينزل وأن الحجر سينادي: يا مسلم! إن تحتي يهودي فتعال فاقتله. علمتنا المدرسة والجامعة أن احتلالنا لأراضي الغير فتح مبين، وحبس المرأة وراء الجدران والحجاب تكريم، وما اكتشفه الغرب واخترعه مختبئ بين دفتي القرآن الكريم. علمتنا المدرسة والجامعة أن المعتزلة مبتدعة، والشيعة رافضة، والإسماعيلية ضالة. علمتنا المدرسة والجامعة أن الشورى خير من الديموقراطية، وأن الأمة خير من الوطن، وأن الرجل خير من المرأة. وعلمتنا المدرسة والجامعة أن رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وجورجي زيدان وفرح انطون وشبلي شميل ضالون مضللون. ماذا يرجى بعد هذا كله ممن افنى سنوات طوال يصب في رأسه كل هذا الغثاء؟ وماذا يرجى بعد هذا كله ممن اخصي عقله، وحرم عليه حق السؤال والشك، وتربى على التصديق والتسليم بما يسكب في رأسه من هراء؟
لا اعجب بعدها عندما استمع لمن يحمل أرقى الشهادات العلمية، يقول لك بكل اقتناع واصرار: إن الحجاب أمر إلهي ورمز لشرف المرأة، وأن القرآن حوى كل العلوم والأسرار والمعجزات، وأن صحيح البخاري ثاني اصح كتاب على الأرض، وأن الحاكمية لله لا للبشر، وأن الليبرالية والعلمانية كفر وزيغ وظلال، وأن قاسم أمين هو من افسد المرأة، وأن شعر الحداثة إلحاد ومؤامرة على اللغة العربية، وأن التصوف بدعة، وأن ابن سبأ هو سبب الفتنة إلى هذا اليوم، وأن المهدي سيظهر يوماً ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وأن الله سيكأفي المسلم في جنته باثنتين وسبعين حورية، وأن الغرب مشغول بالتآمر على الإسلام والمسلمين، وأن الترحم على روح غير المسلم لا يجوز، وأن الغناء والرقص حرام، وأن اعمال التفجير والإرهاب مقاومة، وأن اعضاء الشرطة الدينية أسود وأبطال، وأن شيوخ الدين هم خيرة البشر وورثة الأنبياء، وأن الأرهابي ضحية وليس بقاتل، و...و....
التعليم لدينا يمنح التطرف والإقصائية والماضوية منزلة مقدسة وعمقاً نظرياً. لقد تكلمت إلى عشرات ممن اكملوا دراستهم الجامعية في الداخل والخارج، وبعضهم ممن حظي بفرصة اكمال الدراسات العليا في جامعات امريكية وبريطانية، فما وجدت بينهم فرقاً يذكر فيما يتصل بثقافتهم الدينية. جميعهم يردد ما تم حشو رأسه به على مقعد الدراسة. إن ما نقش على جدار الذاكرة الطري في الصغر سوف يتعذر محوه في الكبر، ما لم تتوافر لدى المتلقي الرغبة الحقة في الاستقصاء والبحث ومد مداركه إلى ماوراء التخصص العلمي الدقيق، لهذا اجد أن جل المتعلمين متشابهين لا تنافر بينهم إلا في نوعية التخصص العلمي. خلاصة القول، إن التعليم قد تسبب في أدلجة المتلقي وفي توتير علاقته مع الغير. في المقابل، فإن الأمي في سلوكه وتصوراته وأفكاره أقرب ما يكون إلى الفطرة. إنه أشبه بأرض بكر لم تطأها أقدام ابن تيمية والماوردي وسيد قطب، ولم تعبث بها عقيدة الولاء والبراء وفقه جهاد الطلب. وحجتي في ذلك، هي أمي وجدتي ومن بقي من كبار السن، ممن لم يذهبوا للمدرسة، ولم يفتحوا كتابا. إلا أنهم ألين عريكة وأكثر تسامحاً من كثير من المتعلمين. إنهم يحملون في دواخلهم إسلاماً بسيطاً ومهادناً ومتصالحاً، لا ترهقه الفتاوى ولا تثقل أوزاره النواهي. ولعلي لا أبالغ في القول، أنهم يحملون في احشاءهم نوازع ليبرالية، دون أن يتبينوا ذلك، أو يعوا معانيها، ناهيك عن إجادة نطقها. لا أجد بعد هذا إلا القول إنّ الجهل (احياناً) خير من العلم!