من علّم حرفا حرّر عبدا...!
بقلم وفاء سلطان
جميع الأديان التي سبرت أغوارها باستثناء الإسلام، و بغضّ النظر عن ما جاء فيها من أساطير وخرفات لايقبلها العقل، وجدتها تجهد لترفع الإنسان إلى مستوى الإله. الإسلام وحده يهبط بالإله إلى مستوى الإنسان، وليس أيّ انسان، بل انسان غاضب حاقد ماكر مجنون أناني متكبر متجبر مغرور ....بل مريض!
يقول المفكر السعودي عبدالله القصيمي: أعجب من إله يُبدع، ثم يشوّه ما أبدعه!
هل يُعقل أن يُبدع إله في خلق الإنسان جسدا وعقلا وروحا، ثم يشوّهه فيسقط به إلى مستوى رقبة؟!!
"ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة وديّة مسلمة إلى أهله"!
بل في مواقع أخرى من القرآن يقول: فكّ رقبة!
لست هنا لأتناول تكريث الإسلام للعبودية، بل لأشير إلى ذلك الفنان الذي يرسم لوحة ويُبدع في رسمها، ثمّ يمسك فرشاته ويشوّه ما أبدعه!
رقبة؟!!
هل الإنسان، ذلك العقل الذي سما بنفسه إلى الفضاء وسبر أغوار الكون، مجرد رقبة؟
الحيوان يُربط من رقبته، فهل الإنسان مجرّد حيوان؟ وهل يُعرّف من خلاله العضو الذي يُربط به؟!!
لغة هابطة لا تليق بفنان مبدع، ولا بحقّ إبداعه!!
كان حرّي به لو قال: تحرير عقل، أو تحرير روح، أو على الأقلّ تحرير انسان!
لماذا لا يسمّي المسمّيات بأسمائها، كي لا يشوه حقيقتها؟
"لا تنابذوا بالألقاب"، أي لا تدعوا بعضكم بعضا بلقب يكرهه! أليس هذا تنابذا؟
كيف ينهي الإله عن فعل ويأتي مثله؟!
هل أحد فيكم يرتاح لأن يُعرّف من خلال رقبته؟ تصوّرا لو كنتم مدعويين لحفلة غداء في بيتي، وقلت: لدي عشرون رقبة، وأنا مشغولة بتحضير العلف لتلك الرقاب! كيف سيشعر كلّ منكم؟!
ستعيدون النظر عندها في صداقتكم لي، فلماذا لا تعيدون النظر في عبادتكم لإله يفعل ما فعلت؟!
لا أستطيع أن أصدق بأنه، وخلال الأربعة عشر قرنا المنصرمة، قام مسلم واحد بقراءة القرآن!
وإلاّ لاحترم كينونته التي هي فوق مستوى رقبته! ورفض أن يسقط به إلهه إلى ذلك المستوى المتدني.
المسلمون لا يقرأون كتبهم بوعي، وإلا لما كانت حالتهم على ماهي عليه. لقد استعبدت تلك الكتب عقولهم، وبرمجتها بطريقة آلية يفقد عندها الإنسان وعيه، فيُصبح سلوكه كلّه خارجا عن إرادته.
البرمجة العقلية هي البوصلة التي قادتنا من حيث لا ندري إلى وضعنا الحالي، وستقودنا إلى مستقبلنا. لا يستطيع الإنسان أن يُغير وضعا مالم يرتقي بوعيه إلى مستوى يعي عنده ماهية برمجته، فيُبقي على صالحها ويطرح طالحها.
يقول غاليلو: لا أستطيع أن أصدق بأن الإله الذي يمنحني عقلا هو نفسه ذلك الإله الذي يمنعني من أن أستخدمه.
وأنا لا أصدق بأن الإله الذي منح المسلم عقله هو نفسه الإله الذي منحه كتابه، فالأول أراده أن يستخدم عقله والآخر منعه من أن يستخدمه.
............
هذا ما التهم جلّ وقتي، وأبعدني عن قرائي تلك الفترة الطويلة. قررت أن أفعل ما بوسعي لتحرير الإنسان، العربي بصورة عامة والمسلم بصورة خاصة، من عبودية برمجته العقليّة. علّني أرتقي بوعيه إلى ذلك المستوى الذي يُساعده على تغيير وضعه.
ألفت كتابا يضمّ بين دفتيه محاولتي تلك، لا أبغي من ورائه إلا أن تذكرني الأجيال القادمة يوما بالجميل، فتقول: علّمت وفاء حرفا فحررت عبدا!
كل كلمة صادقة وجميلة تقرأها أو تسمعها تساهم في تحرير العبد الذي يسكن داخلك، لترتقي بك فوق مستوى عبوديتك وإلى مستوى إنسانيتك.
وصلتني رسائل كثيرة تسأل عن سرّ غيابي الطويل، كانت صادقة في تعابيرها وجميلة. خففت عني الكثير من أعباء يومي، وأشعرتني بقيمة ما أكتب.
صدق أو لا تصدق، كان أجملها على الإطلاق رسالة من قارئ، يقول فيها: لقد اختفى زعيقك منذ زمن طويل، ليت الله يخفيه إلى أبد الآبدين؟
حررتني تلك الرسالة من بعض أثقالي، فضحكت حتى طردت آخر عبد يقبع في اللاوعي عندي.
ما دام ذلك القارئ مرتاح لغيابي، مالسرّ وراء رسالته لي؟
رحت أنبش ثنايا اللاوعي عنده، علّني أجد في خفاياها جوابا لسؤالي.
يقوم الإنسان أحيانا بتصرفات تتناقض مع بعض نوازعه، وتحديدا تلك النوازع التي لا يرتاح للبوح والإعتراف بها. الغاية الخفية لتصرفاته تلك هي محاولة غير صادقة منه لإنكار تلك النوازع. تدعى تلك التصرفات في اللغة الطبية Defense Mechanism أي آليات الدفاع. قد تلتقي بإنسان تكرهه، ولكنّك لا تريد أن تبوح له بنوازعك تُجاهه، فتحاول أن تكبحها بقولك له: يعجبني ذوقك في شراء الملابس، لقد أحسنت اختيار قميصك!
أضرب مثلا آخر: رجل متزوج وقع في غرام امرأة. قد يلتقي صدفة بتلك المرأة وهو بصحبة زوجته، فيلتفت إلى زوجته ويقول: لا تعجبني تلك المرأة، تبدو ثرثارة ولا أرتاح لحديثها!
صاحب تلك الرسالة يقرأني ويرفض ما يقرأ، لكنّ نازعا خفيّا في أعماقه يشده إلى كتاباتي. لم يشعر بالراحة حيال ذلك النازع، فحاول جاهدا أن يكذبه عبر رسالته لي، وإلا لماذا كتب؟
عندما أكتب، كلّ قارئ هو هدفي. لكنّ هذا النمط من القراء هو قلب الهدف
والدريئة التي أصوب باتجاهها سهمي. الصراع الذي يعيشه ذلك النمط عندما يقرأني، هو المرحلة التي لا بدّ من المرور فيها لأي قارئ متزمت، كي ينتقل بعدها إلى مرحلة تحرره من تزمته، وتطلق العبد الذي يقبع في عمقه.
كتابي، الذي سينشر على صفحات الحوار المتمدن، هو قطار أفكاري الذي سينقلك من محطة إلى أخرى. في كلّ محطة أحاول أن أخلّصك من بعض أثقالك التي لا قيمة لها والتي تستعبدك، حتى تتحرر كليّا منها فتكون الحرّ الذي أنشده فيك.
تذكّر ـ وأنت تقرأه ـ بأنّك لستَ رقبة، ولا أتعاملُ معك على أنّك رقبة. أنت انسانٌ مجهزٌ بكلّ الملكات العقلية التي تسمح لك أن تكون حرّا، فلماذا لا تستخدم ملكاتك كي تعيش حريّتك؟
الحرية أن يكون عقلك حرّا. ومتى شعرت بعبوديتك عليك أن تحرر عقلك أولا.
الإنسان لا يُربط ولا يُفك من رقبته. يُستعبد من خلال عقله ويتم تحريره بفك ذلك العقل. هذا ماحاولت أن أفعله من خلال كتابي، آملة أن يكون رحلة تصل بالقارئ إلى حريته.
........................
David Faber رجل يهودي كان عمره ثلاثة عشر عاما عندما شهد تعذيب وقتل والديه وأخيه وخمسة من أخواته الستة على يد النازيين. نقلوه تسع مرّات من معتقل إلى معتقل، واستطاع أن ينجو بنفسه من القتل في كل مرّة. يقول أن السر في إنقاذه يكمن في إصراره على ممارسة حريته!
فأيّة حريّة تلك التي يتحدّث عنها ذلك الرجل؟
حرية العقل الذي ظل متمسكا بها في أقسى لحظات عمره، يوم هجم النازيون على أحد المستودعات وكانت عائلته تختبأ هناك. سمع صوت أقدامهم تصعد على السلم الحديدي، فاختبأ خلف كرسيّ وراح يراقب كيف تم قتل عائلته بوحشيّة لا يمكن أن يتحمّلها أحد.
يقول: من خلف الكرسي، وبعقل حرّ ونقيّ نظرت إلى جثة أمي الهامدة، وقلت لها في قلبي: أعدك بأنني سأعيش وسأحي ذكراك للأبد!
لم أفقد صفاء عقلي حتى في تلك اللحظة، وخرجت من آخر معتقلاتي وأنا في الثامنة من عمري ووزني ثلاثين كيلو غرام.
خرجت إلى الحياة كي أفي بوعدي لأمي، ذلك الوعد الذي كان ثمرة حريتي العقلية في أقسى لحظات عبوديتي.
الف ديفيد كتابا بعنوان: Because of Romek (كان ذلك بسبب روميك)، ورميك هو أخيه الوحيد الذي قٌتل أمام عينيه. يحكي في ذلك الكتاب تجربته المريرة، ويذكر فيه بأن كتابه كان ثمرة تلك اللحظة التي مارس فيها حريته العقلية وحافظ على يقظته وهو يرى عائلته تسقط فردا بعد الآخر. هو اليوم في عامه الرابع والثمانين ومازال نشيطا ينتقل من جامعة في أمريكا إلى أخرى كي يتحدث عن تجربته ودوما يقول: مازلت أساهم في إحياء ذكرى أمي، ذلك الوعد الذي قطعته على نفسي في لحظة مارست فيها حريتي وأنا في أقسى لحظات عبوديتي!
...................
العبودية الحقيقة هي عندما يُستعبد العقل. عندما يشعر الإنسان بأنه عبدا عليه أن يكسر جدران سجنه العقلي، قبل أن يسعى لكسر جدران سجنه على أرض الواقع. والمثال الذي يُثبت صحة تلك المقولة، وضع الكثيرين من كتاب العربيّة الذين كسروا جدران سجنهم على أرض الواقع وذلك برحيلهم إلى بلاد تصون حريتهم وتساعدهم في تحرير عقولهم، لكنّهم ظلوا رهائن العقائد التي تبرمجوا عليها.
كاتب ليبرالي، عندما قرأت له أول مقالة في حياتي أبرقت له رسالة أشكره فيها على صفاء ذهنه. في المقالة التي تلتها كتب عن وضع المرأة في العالم الإسلامي باسهاب، وكان شرحا رائعا. المهم، في نهاية المقالة أراد أن يُثبت لقرائه المسلمين بأنه لم يغادر سجنهم، فأنهى مقالته بما معناه: وهذا رغم أن الإسلام كرّم وأعز المرأة، دون أن يشرح كيف كرّمها وأعزّها. كان ذلك منذ عدة سنوات، وكانت تلك العبارة آخر ما قرأته له رغم مقالاته التي تغرق المواقع الإلكترونية. إن العقيدة التي تأمر الرجل أن يضرب المرأة، وتحت أي ظرف، هي عقيدة تنتهك انسانيتها قبل أن تكرّمها أو تعزّها. إلاّ ـ اللهم ـ إذا كان الضرب والرجم والجلد وانتهاك عرض طفلة في السادسة، حسب مفهوم صاحبنا "الليبرالي"، وسيلة للتكريم والإعزاز!
لا يستطيع أي حاكم أو جبّار أو ديكتاتور في الأرض أن يستعبدك مالم يكن عقلك مستعبدا أولا، وعندما تحرر عقلك تستطيع أن تتحرر من جبروت حكامك.
في كتابي، أحاول أن أساعد قارئي كي يسبر بواطن عقله ويتعرف على الجدران التي تُحيط بذلك العقل، ثم أساعده كي يكسر تلك الجدارن ويطلق العملاق الراقد هناك.
إنه كتاب من الحجم الصغير يكاد لا يزيد عن مائة صفحة، حاولت جهدي أن يكون سهل القراءة واضحا لا يحتاج إلى تفاسير وأساطير الطبري والزمخشري والجلالين، لكنني لا أستبعد أن يُثير قريحة القرضاوي وسماحة الشيخ نهرو الطنطاوي فيخرجان علينا بفتاوى أكثر إثارة من فتاوى الإرضاع والنكاح.
لقد أعطيته من وقتي ومن جهدي، وكان خيرك، عزيزي القارئ، من وراء القصد.